"تهريب" الحروف.. والصحفي أيضا!

حين تقرأ حروفي هذه ستكون أمامك مهمة إضافية لتتعرف عن طرق وصولها إليك، أنا صحفي يمني، ولست مثلك، أي لست في وضع طبيعي ولا حتى حروفي -بطبيعة الحال- حروف طبيعية، نحن نعيش استثناءا عن كل العالم، هذه الحروف -عزيزتي، عزيزي- تلامس عينيك، غير أنها وصلت بطريقة مهربة، وقصتها جديرة باهتمامك، وخلف كل حرف ألف حكاية، ومختصر الحكايات أنني صحفي يمني!

قبل أسابيع وصل إلى مدينة "مأرب" اليمنية حيث آوت الجمهورية والدولة، حيث السد المنيع والحصن الحصين لليمني القديم وحرية الشعب وكرامته، حيث الجيش الوطني نشأ عقب احتضانها لأول طلائع المقاومة الشعبية التي كسرت الانقلاب في مهده، فكانت مأرب حصن الجميع، مهوى قلوب الشعب وأفئدة اليمنيين، قبل أسابيع وصل عدد من الصحفيين إلى مأرب، وحين استقبلنا زملائنا كانت أعينهم تلمع فرحا، لقد استطاعوا اجتياز خمسة وثلاثين نقطة تفتيش وحاجز ومعبر!، كلها تتبع مليشيا الانقلاب "الحوثيون" وفي كل نقطة كشف بأسماء وصور الصحفيين، هم الهدف الأول والجبهة الوحيدة التي تشن عليها هذه العصابات حربا مفتوحة لا هوادة فيها.

الصحفي اليمني بحاجة إلى تضامن فعلي وما عادت البيانات مجدية، هذه حقيقة نأسف لقولها.

الصحفيون في اليمن ضحايا لأعداء متعددون، والحرب ضدنا مسعورة، نحن نتقاطر إلى مدينة مأرب عبر طرق "التهريب"، حين يتحرك أحد الزملاء من مدينة ما، تظل قلوبنا معلقة بين القلق والخوف وبعض الأمل، حتى ينجح المهربون في توصيل الصحفي "المهرّب"! يمكنكم أن تتخيلوا كيف نحتفي بالقادم إلينا، نحتفي به كما يفعل مدمني الممنوعات بوصول بضاعتهم إليهم، تمالكوا أنفسكم، انا أعي ما أقول، لقد باتت الصحافة ممنوعة في اليمن، بل وجريمة يستحق ممتهنها القتل والسجن مع التعذيب والتنكيل أو التجويع والمطاردة.

ذات يوم اتصل بي الأستاذ عبد الله غراب مراسل بي بي سي في اليمن، وكنت حينها في مدينتي المحتلة "ذمار" وقال لي بعد ساعة سأتصل بك برقم آخر، قلت له وأنا سأبدل رقمي هذا بعد اتصالك مباشرة، كنت في ذمار أمتلك نحو سبع شرائح اتصال لشركات متعددة، قلت للأستاذ عبد الله: أضحينا كتجار المخدرات!! ثم انفجرنا ضاحكين، الصحافي في اليمن مرصود وعلى لائحة سوداء، مصيره بات إما بسفك دمه برصاصة أو بوضعه هدفا للطيران في مخزن أسلحة كما فعلوا بالشابين الزميلين يوسف العيزري وعبد الله قابل، قتلوهما في أبشع صور القتل، أو خلف القضبان مع التعذيب المستمر كما هو حال تسعة عشر صحفيا منذ نحو عامين، أو المطاردة كما هو حال كل الصحفيين في اليمن، باتوا مشردين في الداخل والخارج!

هذه الحروف التي تقرأونها "مهربة" أؤكد لكم ما أقول، لقد كتبتها في جهازي، ثم نقلتها إلى جوالي حيث لا أستطيع فتح الانترنت إلا عبر الجوال، في مأرب -كما في المحافظات التي تسيطر عليها الشرعية- لا نستطيع فتح الانترنت إلا بصعوبة بالغة، هذه الحروف التي تقرأونها وصلت عبر طرق متعددة، لقد نقلتها إلى جوالي، وانتقلت إلى زاوية الغرفة التي أسكن فيها، ورفعت يدي إلى الأعلى وأنا واقف لأبحث عن الشبكة، نحن نفعل هذا بشكل شبه يومي، بناتي يرقبن حالي بقلق خشية أن أسقط، ذات ليلة سقطت فانفجرنا من الضحك في الأسرة، أنت صحفي تلاحق ذاتك وتتلاحق مع الأعداء المتعددون، ومن بينهم النت، لقد نجحت في إرسال حروفي إلى صديق في دولة خليجية، أرسلت له عبر الواتس لينشرها في نافذتي عبر "مدونة الجزيرة"، ها قد أخبرتكم سراً، أنني سلمت كلمة سر المدونة لصديق في الخليج، نحن في اليمن لا نستطيع فتح مواقع الأخبار من بينها الجزيرة، لقد حجبتها سلطات المليشيا الانقلابية، إنها رحلة شاقة لحروف صحفي يمني يعيش حياته وحروفه ومهنته كلها "تهريب" في ظل سيطرت عصابة الانقلاب.

غاب عني أقرب الزملاء خلف قضبان "الحوثيين" ومكثنا بضعة أشهر نبحث عنهم، نتلمس أخبارهم، فكانت تأتينا بعض المعلومات بالتهريب، وبعضها بثمن غال، كان الزميل وضاح المنصوري شقيق الزميل المختطف توفيق، كان يتنقل في سجون وأقبية المليشيا في العاصمة يبحث عن زملاءنا التسعة الذين اختطفوهم في يونيو من العام 2015، وكان حرّاس السجون وأقسام الشرطة يتمنعون عن الإفصاح بأي معلومة حتى يعطيهم وضاح بعض النقود، كانوا يبتزون زميلنا المفجوع على أخيه ورفاقه فيضطر لدفع مبالغ ثمناً لتهريب خبر عن وضع أخوة لنا تحت التعذيب والاختطاف، و جريمتهم أنهم صحفيون، في ظل سيطرت المليشيا أن تكون صحفياً فأنت ترتكب جريمة!

احتفلنا كثيرا بوصول عدنان الشهاب، وحمود هزاع، وفهمي وعبد الله ..، نحتفل حينما يصل زميل قطع مسافة الطريق في سيارة "مهرب" نجا بزملائنا بفضل خبرته العالية في التهريب، وكثير من الدعوات التي ترافق الزملاء منذ أول لحظة يغادر فيها حتى نراه، احتفلنا أيضا برسالة للزملاء المختطفين كتبوها في ظهر "كرتون" صغير لـ"جبنة أبو ولد"، كتبوا فيها أنهم بخير ويحثوننا على مواصلة النضال، وأنهم يدفعون ثمن الحقيقة، لقد هرّب أحد السجانين لهم بعض علب الجبن، وقلم رصاص، وأخرج الرسالة بطريقة غريبة عبر طرق ملتوية في حكاية تهريب مثيرة ستروى قريبا!

هذه الحروف وصلتكم "مهربة" وزملائنا يتهربون عبر طرق كثيرة إلى مأرب ومدن مختلفة، بل ودول شتى، وليست حروفنا وحدها التي نهرّبها، بل أوجاعنا باتت كلها مهرّبة.

كل حكاياتنا تهريب، مكثت والدة الزميل عبد الخالق عمران في صنعاء نحو ستة أشهر طمعا في أن تحظى بزيارة لفلذة كبدها، لكنها عادت خائبة، لتقضي ثالث عيد بلا عبد الخالق، وصلنا بعدها خبر أن الزميل عبد الخالق بات يتحرك بصعوبة بالغة نتيجة التعذيب المستمر، نحن نخشى على حياته للغاية، حاولنا استجداء تعاطف المنظمات المعنية بحقوق الإنسان وبالصحفيين على وجه الخصوص، وجدنا بيانات تضامن، غير أننا للأسف لم نفلح في دهن العمود الفقري لعبد الخالق ببيانات التضامن والتنديد، وجدناها ليست رقية جيدة، لم تنجح في تخفيف ألمه، الصحفي اليمني بحاجة إلى تضامن فعلي وما عادت البيانات مجدية، هذه حقيقة نأسف لقولها، لكننا فقدنا أحد أهم الصحفيين الاستقصائيين في بلادنا في ظروف غامضة، لا يزال موت الزميل محمد عبده العبسي كابوساً أرّق مضاجعنا، ونجزم بأنه تمت تصفيته، وهذا ضاعف خشيتنا على زملائنا خلف القضبان!

هذه الحروف وصلتكم "مهربة" وزملائنا يتهربون عبر طرق كثيرة إلى مأرب ومدن مختلفة، بل ودول شتى، وليست حروفنا وحدها التي نهرّبها، بل أوجاعنا باتت كلها مهرّبة، ومشاعرنا أيضا، قريبا سيأتيكم حديث طفلة اسمها "توكل" ابنة الزميل توفيق المنصوري، بعد زيارتها لوالدها للمرة الأولى كانت قد اقتنعت بعدم البكاء عنده في سجن الأمن السياسي، حتى لا يتأثر نفسيا، وحين خرجت من بوابة السجن انفجرت ببكاء حزين تتقطع له الأفئدة، وكانت تتمتم بصوت ممزوج بالوجع والحزن "لقد أوفيت بعهدي.. لم أبك عند والدي"، باتت مشاعرنا مهربة أيضا، وأوجاعنا.